القضية الفلسطينية- تحولات ثقافية، تجاذبات عربية، وتفاعل عالمي متصاعد

في غمرة الصراعات والحروب، يلحظ الأفراد بأعين ثاقبة أي تبدل سياسي أو عسكري يطرأ، إذ تتغير الأوضاع بصورة مفاجئة، فقد يتحول نظام الحكم من ملكي إلى جمهوري، أو قد يُمنى جيش بهزيمة نكراء في ساحة القتال، أو قد ترجح كفة أحد الأطراف المتنازعة في الحرب الأهلية.
بيد أن التحولات الاجتماعية والثقافية تستغرق زمنًا مديدًا، ولا يمكن تلمسها بين ليلة وضحاها، فهي كامنة في أعماق النفوس، وتتصل بالقيم والمفاهيم والتصورات، وعلى الرغم من أن الشعور بتغيرها قد يكون بطيئًا، إلا أنها الأكثر ثباتًا والأشد تأثيرًا على مر الزمن.
نقطة ارتكاز
على امتداد قرن كامل، شهدت القضية الفلسطينية تحولات ثقافية راسخة، شكلت منعطفات حاسمة في مسيرتها، وأدت في نهاية المطاف إلى تحديد رؤية الفلسطينيين لقضيتهم، وكذلك رؤية المجتمع العربي المحيط بهم، الذي تفاعل بدرجات متفاوتة مع تطلعات الفلسطينيين نحو الحرية والعدالة والاستقلال، وسعيهم الدؤوب لاستعادة أراضيهم المسلوبة.
إلا أن هذا التحول الثقافي الذي استغرق وقتًا طويلاً حتى يظهر للعلن، لم يمحُ طوال فترة تكوينه التصورات الراسخة والدائمة في أذهان ووجدان العرب، حيث بقيت هذه القضية، في نظر قطاعات جماهيرية عربية واسعة، بمنزلة نقطة ارتكاز رئيسية، ينجذبون إليها بوعيهم ومشاعرهم، خاصة وأن هذه القضية لم تشهد في أي مرحلة من المراحل ركودًا وجمودًا وسكونًا، يسمح للمنشغلين بالسياسة، أو المرتبطين بالمصالح الوطنية الجوهرية، بالتخلي عنها أو تنحيتها جانبًا.
وعلى الرغم من تعاقب الأجيال العربية عبر السنين، ظلت قضية الشعب الفلسطيني حاضرة بقوة، تفرض نفسها بإلحاح، تارة من منطلق "الشعور المشترك" لأصحاب هوية واحدة أو متجانسة على أقل تقدير، وتارة أخرى من زاوية التأثير المباشر لهذه القضية على المصالح الوطنية لكل دولة على حدة.
سواء من خلال امتداد العدوان الإسرائيلي إلى هذه الدول، ولا سيما ما يعرف بدول الطوق، أو من خلال إدراك الأنظمة الحاكمة المتعاقبة أن جزءًا كبيرًا من الرأي العام في كل دولة عربية، يحدد علاقته بالسلطة السياسية بناءً على موقفها من الفلسطينيين، حتى وإن اختلفوا أحيانًا في مقاربتهم لقضيتهم، بين مقاومة مسلحة أو مدنية، أو الدخول في مفاوضات، أملاً في أن تحقق لهم مبادرات واتفاقيات السلام المطروحة حقوقهم الضائعة، أو حتى أولئك الذين يطالبون بحالة من الهدوء، تسمح باستمرار مصالحهم مع الإسرائيليين أو جني المنافع منهم.
هذا التباين الفلسطيني في حد ذاته يتوزع على خلفيات ثقافية لا يمكن إنكارها، وتحديدًا بين أيديولوجية يسارية لازمت نضال الفلسطينيين لعقود طويلة، ثم أيديولوجية إسلامية بدأت في الصعود منذ ثمانينيات القرن العشرين، لتواصل ما بدأه الشيخ أمين الحسيني في ثلاثينيات القرن نفسه، ولكن بصورة مختلفة.
تنوع الرؤى
ليس هناك ما يعيب تنوع الرؤى الثقافية الفلسطينية، التي تنعكس حتمًا على التصورات والأداء السياسي بنسب متفاوتة، ولكن العيب الفادح والضرر البالغ يكمن في تجاوز الأمور لحدود التعدد والاختلاف الطبيعي، والانزلاق إلى انقسام أو شرخ كامل، يحول الهويات الثقافية الفلسطينية إلى حالة من الصراع الشديد، بدلاً من الاستفادة من توزيع الأدوار، وتحقيق النتائج الإيجابية المترتبة على التنوع الثقافي والاجتماعي الخلاق.
تنجذب الخلفيات الثقافية العربية نحو هذه "القضية المحورية"، وفق إدراك مستمر لدى قطاع واسع من المثقفين والرأي العام، وينظر إليها كل طرف من موقعه الثقافي أو خلفيته الفكرية، فاليساري يرى فيها تجسيدًا للنضال ضد القوى الرأسمالية المتوحشة التي تسعى إلى الهيمنة والاستحواذ، وتتجبر دون أدنى اعتبار للأخلاق أو الضوابط أو الوازع، مستندًا في رأيه هذا إلى العلاقة الوثيقة بين الولايات المتحدة الأمريكية، قائدة العالم الرأسمالي، وبين إسرائيل، التي تعتبر مجرد أداة من أدوات الغرب في منطقة الشرق الأوسط.
أما الإسلامي، فيربطها بطبيعة الحال بنصوص وتأويلات وتفسيرات وروايات دينية، واردة في القرآن الكريم والسنة النبوية، حول موقف اليهود القدامى من الأنبياء موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، وما ورد في التوراة والتلمود من نصوص تبرر الحرب والسلب والاستيلاء على أراضي الغير. وفي صميم ذلك تقع قضية "المسجد الأقصى" وحولها "القدس"، التي تمثل النقطة المركزية في قضية فلسطين بأكملها، خاصة لدى الجماعات والتنظيمات السياسية الإسلامية.
وحتى بعض الليبراليين العرب لا يستطيعون فصل القضية الفلسطينية عن قضايا الحرية والنضال من أجل الاستقلال وتقرير المصير وحقوق الإنسان، لذلك نجدهم يتعاملون معها من هذه الزوايا، وبعضهم مخلص في هذه المقاربة إخلاصًا شديدًا.
تفاعلات وتجاذبات
لهذا السبب نجد توافقًا بين أصحاب الخلفيات الثقافية العربية، الذين يتعاطون مع السياسة من منظور واسع أو ضيق، حول القضية الفلسطينية في أوقاتها الحرجة، أي عندما يقع عدوان على الشعب الفلسطيني، خاصة إذا كان عدوانًا وحشيًا، يصل إلى حد "جرائم الحرب" أو "الإبادة الجماعية"، كما يحدث في قطاع غزة الآن.
ولا يقف المنتمون إلى هذه الثقافات العربية المتنوعة خلف جدران عالية تفصلهم عن نظرائهم في الساحة الفلسطينية، بل توجد العديد من نقاط الالتقاء، بل التفاعل المتبادل، الذي ينشئ نوعًا من التغذية الراجعة، تجعل القضية الفلسطينية موضوع نقاش ثقافي مستمر لا يخبو.
وتحيط هاتين الدائرتين الثقافيتين دائرة أوسع تمتد إلى العالم أجمع، فبالإضافة إلى أتباع الثقافة السياسية الإسلامية في العالم الإسلامي الممتد من غانا إلى فرغانة، يوجد بالطبع يساريون وليبراليون في كل مكان، يتعاملون مع القضية الفلسطينية من المنظور نفسه تقريبًا الذي يتبناه نظراؤهم في العالم العربي، وإن كان الفريق الآخر أكثر تحمسًا بسبب الانتماء القومي، والقرب الجغرافي، والشعور بالتأثير المباشر أحيانًا، والناجم في كثير من الأحيان عن "الظلم الإسرائيلي".
وقد ساهمت "ثورة الاتصالات" الهائلة التي شهدها العالم في العقود الثلاثة الأخيرة، والتي يتضاعف حضورها وتأثيرها مع مرور السنين، في تقريب هذه الدوائر، وخلق أشكالًا من التجاذبات والتفاعلات بينها، والتي شاهدناها طوال الأشهر التي استمر فيها العدوان الإسرائيلي الحالي على قطاع غزة، والذي تجاوز حدود الظاهرة ليصبح تحولًا ثقافيًا عالميًا كبيرًا في التعامل مع القضية الفلسطينية.
